الأحد، 31 أكتوبر 2010

من مذكراتي في كندا / الحلقة 11

كتب : صلاح الدين محسن

عن الأطفال والطفولة :
لاحظت كلما مشيت بمكان ما . بحديقة عامة ، علي شاطيء النهر ، أو بأي مكان عام . أن أي زوجين معهما طفل أو طفلة . وتوقف فجأة عند شيء ما ليتأمله ويشبع منه فضوله الطفولي .. شجرة ، نافورة . أو أي شيء آخر ..
فانه مهما أطال الطفل التوقف والتأمل واللهو حول ما انجذب اليه .. فلا الأم تتدخل لتجذبه من يده قائلة موبخة : هيا امشي . انت كل شوية تقف ؟! لا لا ..
ولا الأب يصيح عليه : هيا يا ولد يا لكع .. كفي لكاعة ..

بل يتوقف الأبوان تماما .. بلا قلق ولا ضيق .. ولا يتعجلان الطفل . ومهما أطال التوقف والتأمل ، واللهو ببراءة الأطفال . فان والديه ينتظرانه بلا ملل . حتي يشبع فضوله وتأمله .. ثم يلحق بهما من تلقاء نفسه ، وهنا يمضيان معه ...


وفي الونات الحلاقة . لاحظت أن هناك من يعدون حلوي خصيصا . لاهدائها للأطفال الذين يحضرون مع ذويهم . وعند طبيب الأسنان . الذي أتعامل معه . يوجد بالاستراحة . بعضا من ألعاب ومجلات الأطفال . لتسليتهم .

أما الطبيب الذي أجري لي فحصا عاما . في بدايات وصولي لكندا . لزوم اجراءات الاقامة .. ففي عيادته . رأيت سيدة و معها طفلة أقل من 3 سنوات . راحت الطفلة تعبث بعدد كبير من الصحف والمجلات الموضوعة فوق منضدة لزوم من يرغب من المترددين علي العيادة .. ثم أمسكت بكافة المجلات وراحت تلقي بها علي الأرض واحدة تلو أخري .
والأم ترقبها ولا تفعل ثمة شيء .. بل كانت ساكنة تماما ..واستغربت موقف الأم ، وكدت أن أتدخل . علي طريقتنا ببلادنا في مثل تلك الحالة . لأطالب الطفلة بألا تفعل ذلك .. ولكنني انتظرت لأري موقف سكرتيرة العيادة . التي لاحظت ما تفعله الطفلة . ولم يظهر علي وجهها ثمة امتعاض أو اعتراض . ولا حتي عتاب مازح ضاحك مع الطلفة لكفها عما تفعل .. بل كانت هادئة تماما كأم الطفلة .. بما يعني بأن ما يحدث ما هو سوي شيء عادي ..
وبعد أن ألقت الطفلة بكافة المجلات علي الأرض .. بعد حظات قليلة . قامت الأم بهدؤ باعادة ما تبعثر ووضعه بعناية فوق المنضدة كما كان .. وبدون تأفف في وجه الطفلة ولا تزمر ، ولا تطقطقة من شفتيها . ولا نظرة متوعدة ، ولا شذرة غضب أواستياء من عينيها ولا اشارة بيدها تتوعد بها الطفلة .. لا لا..

تكلمنا في حلقة سابقة عن كيف أن المعلمين والمعلمات لتلاميذ المراحل الأولي من التعليم . من الثانوية وما دونها . حتي أطفال الحضانة .. – كما رأيتهم في الرحلات داخل المدينة - عندما يطالبون التلاميذ أو الأطفال . بالهدؤ لسماع ما سيقولونه لهم . فهم يخاطبونهم ب ( سيلفو بليه .. سيلفو بليه . بالفرنسية ) . : من فضلكم ، من فضلكم ..
وبعد الانتهاء من القاء تعليماتهم وتوجيهاتهم .. لا ينسي المعلم أو المعلمة . أن يشكر تلاميذه لالتزامهم بالهدؤ وحسن الاصغاء اليه – ولو كانوا أطفالا بالحضانة – بالقول : ( ميرسي بيكوب . بالفرنسية ) أشكركم جدا ..

فما هي نتيجة تلك الطريقة في التربية . علي سلوك الأطفال بعد أن يكبرون ؟
النتيجة ألاحظها عندما أقف في سوبر ماركت ، شوبنج سنتر . بطابور طويل لدفع ثمن مشتروات . - او طابور انتظار والصعود للأتوبيس - ألاحظ انه لو تصادف وتأخر زبون ما في دفع حسابه بالخزينة ، أو تصادف وتأخرت موظفة الخزينة في محاسبة زبون .. مهما كان الطابور طويلا ومهما طال الوقت . لا أحد يتبرم ، أو يتزمر . ولا أحد صاح في وجه الزبون ، أو موظفة الكاشير . مشيحا بكامل ذراعه كما يحدث ببلادنا : هيا بقي .. خلص بقي ، خلصي بقي ، وراءنا مصاااالح ...! . احنا موش حنخلص النهاردة ؟!
كلا كلا ..
بل صبرا طويلا وجميلا .. حتي ينتهي الزبون براحته بلا استعجال من أحد وحتي تنتهي موظفة الكيس . من محاسبة كل زبون براحتها .. دون ضجيج من أحد الواقفين .. لأن الجميع عندما كانوا أطفالا صغارا .. لم يتعجلهم الأب أو الأم .. لم ينهرهم أحد ولم يزجرهم ولم يضربهم ولم يعنفهم أحد . تعلموا تلك المعاملة . فتأدبوا وترفقوا منذ الصغر ..

وعندما ذكرت ملاحظاتي تلك . لصديقة كندية من أصل شرق أوسطي . هاجرت لكندا منذ 20 عاما .. قالت لي : هنا يتعاملون مع الطفل كما لو كان كبيرا . من حيث احترامه .. يحترمونه كما يحترمون الكبار . – ومعروف أن ضرب أي من الوالدين لطفلهما . مشكلة كبيرة لو بلغ الأمر للبوليس . فهذا ممنوع قانونا . وهناك أساليب كثيرة متحضرة لتربية الطفل . بخلاف الضرب - .
فما هو تأثير احترام الكبار للطفل . علي سلوكه عندما يكبر ؟
الجواب كما أري : ان كبر الطفل وصار موظفا حكوميا فانه يتعامل مع المواطنين ذوي المصالح عنده . بأدب كما عومل بالأب وهو صغير ..
وان صار مديرا أو رئيسا لقسم باحدي المصالح أو الادارات . فانه يتعامل مع مرؤوسيه بأدب وباحترام . لأنه تربي علي أن يحترمه من كانوا اكبر منه .. لذا فهو يحترم من هو أكبر منهم . كما تربي ..
وان صار رجل أعمال . فانه يتعامل مع العمال والموظفين الأجراء عنده . باحترام وبأدب .. فقد كان محترما وهو لايزال طفلا صغيرا .. فتربي علي احترام الكبير للصغير ..

وان صار ضابط شرطة .. فانه لا يضرب الناس ولا يعذبهم ولا يهين احدا بقسم الشرطة .. لأنه لم يعرف الضرب وهو صغير . لا أمه ضربته ولا أبوه ضربه ولا المعلم بالمدرسة ضربه . ولا أحد أهانه .. لذا فانه كضابط شرطة ، يحترم الناس مثلما تربي علي الاحترام وعلي الأدب مذ كان طفلا صغيرا ..

وان صار الطفل رئيسا للجمهورية أو رئيسا للوزراء .. فانه لا يتحول الي ديكتاتور .. أو طاغية .. كلا .. فالذين ربوه بالبيت لم يمارس أحد عليه الديكتاتورية .. لا عرف ديكتاتورية من أب ولا عرف ديكتاتورية من أم ، ولا عرف ديكتاتورية من المعلم ولا من مدير المدرسة . وانما عرف أن يكون محترما من هؤلاء الذين ربوه . فيحترم ارادة الشعب عندما يتقلد منصب الرئاسة ، ولا يطغي ولا يتكبر ولا يتدكتر ...
الأب والأم والمعلم بالمدرسة .. هؤلاء الثلاثة هم المسؤولون عن تحديد شخصية وأخلاق الطفل عندما يكبر .. اما أن يصنعوا منه انسانا سويا خلوقا . واما انسانا معقدا ناقصا قاسيا .. والطفل سيتعامل مع الناس بالمجتمع . بمثل ما لقي من المعاملة من الأب والأم بالمنزل ، ومن المعلم بالمدرسة .
***************
هذه الحلقة .. مهداة الي الطفل : " أدهم علاء صلاح " ( حفيدي ) . ولوالديه . متمنيا لأدهم ، ولجميع أطفال بلادنا . حظا أسعد ، ومستقبلا أفضل .
***************